الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
الجزء الرابع وَيَتَعَلَّقُ بِهَا النَّظَرُ فِي مَسَائِلَ: يُطْلَقُ لَفْظُ السُّنَّةِ عَلَى مَا جَاءَ مَنْقُولًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ، مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بَلْ إِنَّمَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ بَيَانًا لِمَا فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا. وَيُطْلَقُ أَيْضًا فِي مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ؛ فَيُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى سُنَّةٍ إِذَا عَمِلَ عَلَى وَفْقِ مَا عَمِلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ ذَلِكَ مِمَّا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ لَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى بِدْعَةٍ إِذَا عَمِلَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِيهِ عَمَلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ؛ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ السُّنَّةِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ. وَيُطْلَقُ أَيْضًا لَفْظُ السُّنَّةِ عَلَى مَا عَمِلَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِكَوْنِهِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةٍ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا، أَوِ اجْتِهَادًا مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ خُلَفَائِهِمْ؛ فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِجْمَاعٌ، وَعَمَلُ خُلَفَائِهِمْ رَاجِعٌ أَيْضًا إِلَى حَقِيقَةِ الْإِجْمَاعِ مِنْ جِهَةِ حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهِ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ النَّظَرُ الْمَصْلَحِيُّ عِنْدَهُمْ؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ وَالِاسْتِحْسَانُ، كَمَا فَعَلُوا فِي حَدِّ الْخَمْرِ وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَتَدْوِينِ الدَّوَاوِينِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ». وَإِذَا جُمِعَ مَا تَقَدَّمَ؛ تَحَصَّلَ مِنْهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِعْلُهُ، وَإِقْرَارُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ إِمَّا مُتَلَقَّى بِالْوَحْيِ أَوْ بِالِاجْتِهَادِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ، وَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ، وَالرَّابِعُ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوِ الْخُلَفَاءِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ، وَلَكِنْ عُدَّ وَجْهًا وَاحِدًا؛ إِذْ لَمْ يَتَفَصَّلِ الْأَمْرُ فِيمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ تَفْصِيلَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكِتَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالسُّنَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْقَطْعُ فِيهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ؛ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيَانًا؛ فَهُوَ ثَانٍ عَلَى الْمُبَيَّنِ فِي الِاعْتِبَارِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمُبَيَّنِ سُقُوطُ الْبَيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْبَيَانِ سُقُوطُ الْمُبَيَّنِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا؛ فَهُوَ أَوْلَى فِي التَّقَدُّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا؛ فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ وَالثَّالِثُ: مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ؛ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ: «بِمَ تَحْكُمُ؟» قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، الْحَدِيثَ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ؛ فَاقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاقْضِ فِيهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَى هَذَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَاتَّبِعْ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ؛ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ؛ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ. وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ رَاجِعٌ إِلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ عَلَى اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَقَدْ لَا يُخَالِفُ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ كَالْكِتَابِ فِي مَرَاتِبِ الِاعْتِبَارِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ: أَمَّا أَوَّلًا؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا؛ فَيُرْجَعُ إِلَى السُّنَّةِ، وَيُتْرَكُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَمْرًا فَتَأْتِي السُّنَّةُ فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السُّنَّةِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ، وَتَخُصُّ عُمُومَهُ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ؛ فَالْقُرْآنُ آتٍ بِقَطْعِ كُلِّ سَارِقٍ؛ فَخَصَّتِ السُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَارِقَ النِّصَّابِ الْمُحْرَزِ، وَأَتَى بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا؛ فَخَصَّتْهُ بِأَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاء: 24]؛ فَأَخْرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا؛ فَكُلُّ هَذَا تَرْكٌ لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَتَقْدِيمُ السُّنَّةِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً. وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِذَا تَعَارَضَا فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُول: هَلْ يُقَدَّمُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ، أَمْ بِالْعَكْسِ، أَمْ هُمَا مُتَعَارِضَانِ؟ وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَا تَضْعُفُ فِي الدَّلَالَةِ عَنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ، وَأَخْبَارَ الْآحَادِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ مَعَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ، وَتَأَوَّلُوا التَّقْدِيمَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْبِدَايَةِ بِالْأَسْهَلِ الْأَقْرَبِ وَهُوَ الْكِتَابُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا؛ فَلَا وَجْهَ لِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ، بَلِ الْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ. فَالْجَوَابُ: إِنَّ قَضَاءَ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ لَيْسَ بِمَعْنَى تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَاطِّرَاحِ الْكِتَابِ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُعَبَّرَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْكِتَابِ؛ فَكَأَنَّ السُّنَّةَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لِمَعَانِي أَحْكَامِ الْكِتَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44] فَإِذَا حَصَلَ بَيَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَة: 38] بِأَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّ الْمَسْرُوقَ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، لَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ السُّنَّةَ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ دُونَ الْكِتَابِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ لَنَا مَالِكٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ؛ فَلَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّا عَمِلْنَا بِقَوْلِ الْمُفَسِّرِ الْفُلَانِيِّ دُونَ أَنْ نَقُولَ عَمِلْنَا بِقَوْلِ اللَّهِ أَوْ قَوْلِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَكَذَا سَائِرُ مَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ قَاضِيَةً عَلَى الْكِتَابِ أَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ فَلَا يُوقَفُ مَعَ إِجْمَالِهِ وَاحْتِمَالِهِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَا أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا خِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعَارُضِ؛ فَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى قَاعِدَةٍ مَقْطُوعٍ بِهَا فَهُوَ فِي الْعَمَلِ مَقْبُولٌ، وَإِلَّا فَالتَّوَقُّفُ، وَكَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ جُزْئِيٌّ تَحْتَ مَعْنًى قُرْآنِيٍّ كُلِّيٍّ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هُنَالِكَ، فَإِذَا عَرَضْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا الْمُعَارَضَةَ فِي الْآيَةِ، وَالْخَبَرِ مُعَارَضَةَ أَصْلَيْنِ قُرْآنِيَّيْنِ، فَيَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ مُعَارَضَةِ كِتَابٍ مَعَ سُنَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ هَذَا التَّعَارُضِ إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ قَطْعِيَّيْنِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَسْتَنِدِ الْخَبَرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَطْعِيَّةٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ بِإِطْلَاقٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا غَالِبُهُ فَرْضُ أَمْرٍ جَائِزٍ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ فِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْضِي بِتَوَاتُرِهِ إِلَى زَمَانِ الْوَاقِعَةِ؛ فَالْبَحْثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ فِي نَادِرِ الْوُقُوعِ، وَلَا كَبِيرَ جَدْوَى فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الْكِتَابِ؛ فَهِيَ تَفْصِيلُ مُجْمَلِهِ، وَبَيَانُ مُشْكِلِهِ، وَبَسْطُ مُخْتَصَرِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44] فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَمْرًا إِلَّا وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ دَلَالَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً، وَأَيْضًا؛ فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَيَنْبُوعٌ لَهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الْقَلَم: 4] وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ، وَاقْتَصَرَتْ فِي خُلُقِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَإِقْرَارَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْخُلُقَ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ حَاصِلَةً فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوَّلُ مَا فِي الْكِتَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38] وَقَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] وَهُوَ يُرِيدُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ فَالسُّنَّةُ إِذًا فِي مَحْصُولِ الْأَمْرِ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهَا رَاجِعَةً إِلَيْهِ. وَأَيْضًا؛ فَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ السُّنَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْ قَبُولِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ كَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 65] وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ بِالسَّقْيِ قَبْلَ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ شِرَاجِ الْحَرَّةِ الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ جَاءَ فِي عَدَمِ الرِّضَى بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ مَا جَاءَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النِّسَاء: 59] وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى الْكِتَابِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [الْمَائِدَة: 92] وَسَائِرُ مَا قُرِنَ فِيهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِطَاعَةِ اللَّهِ؛ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَكَانَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الْآيَةَ [النُّور: 63] فَقَدِ اخْتُصَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِشَيْءٍ يُطَاعُ فِيهِ، وَذَلِكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النِّسَاء: 80] وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْر: 7] وَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى؛ فَهُوَ لَاحِقٌ فِي الْحُكْمِ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ تَرْكِ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مَا فِي السُّنَّةِ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ لَمَا كَانَتِ السُّنَّةُ مَتْرُوكَةٌ عَلَى حَالٍ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يُوشِكُ بِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ، مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ؛ أَلَا مَنْ بَلَغَهُ عَنِّي حَدِيثٌ فَكَذَّبَ بِهِ؛ فَقَدْ كَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِي حَدَّثَهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ عَنِّي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَا، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي بِمَا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَالْعَقْلِ، وَفِكَاكِ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ حَيْثُ قَالَ فِيه: «مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَطَبَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ؛ فَقَالَ: وَاللَّهِ؛ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا؛ فَإِذَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرَ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَإِذَا فِيهَا: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخَفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَإِذَا فِيهَا: مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ: «بِمَ تَحْكُمُ؟» قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ فِي السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاء: تَرَكَ الْكِتَابُ مَوْضِعًا لِلسُّنَّةِ، وَتَرَكَتِ السُّنَّةُ مَوْضِعًا لِلْقُرْآنِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِتَابِ رَأْيُ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ، خَارِجِينَ عَنِ السُّنَّةِ؛ إِذْ عَوَّلُوا عَلَى مَا بَنَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَاطَّرَحُوا أَحْكَامَ السُّنَّةِ فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْخِلَاعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَان: الْقُرْآنُ، وَاللَّبَنُ فَأَمَّا الْقُرْآنُ؛ فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ لِيُجَادِلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا اللَّبَنُ؛ فَيَتَّبِعُونَ الرِّيفَ، يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ» وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب: سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ؛ فَخُذُوهُمْ بِالْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَعَنْ عُمَرَ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ. وَعَنْ عُمَرَ: إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْن: رَجُلٌ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَرَجُلٌ يُنَافِسُ الْمُلْكَ عَلَى أَخِيهِ. وَهُنَا آثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ مَعَ طَرْحِ السُّنَنِ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا؛ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، وَمَا فِي مَعْنَاهُ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ هَكَذَا فَعَلُوا، اطَّرَحُوا الْأَحَادِيثَ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ؛ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا. وَرُبَّمَا ذَكَرُوا حَدِيثًا يُعْطِي أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ أَنَا، وَكَيْفَ أُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَبِهِ هَدَانِي اللَّهُ»؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَالُوا: وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَصِحُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِصَحِيحِ النَّقْلِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ؛ فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَعْتَمِدُ عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لَا نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ بِهِ، وَالْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَيُحَذِّرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ. هَذَا مِمَّا يُلْزِمُ الْقَائِلَ: إِنَّ السُّنَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ، وَلَقَدْ ضَلَّتْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ؛ فَالْقَوْلُ بِهَا وَالْمَيْلُ إِلَيْهَا مَيْلٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ أَمَّا الْأَوْجُهُ الْأُوَلُ؛ فَلِأَنَّا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لِلْكِتَابِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا فِي الْكِتَابِ احْتِمَالٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَتُبَيِّنُ السُّنَّةُ أَحَدَ الِاحْتِمَالَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِذَا عَمِلَ الْمُكَلَّفُ عَلَى وَفْقِ الْبَيَانِ؛ أَطَاعَ اللَّهَ فِيمَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ، وَأَطَاعَ رَسُولَهُ فِي مُقْتَضَى بَيَانِهِ، وَلَوْ عَمِلَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَيَانِ؛ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِي عَمَلِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَيَانِ؛ إِذْ صَارَ عَمَلُهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَ بِكَلَامِهِ، وَعَصَى رَسُولَهُ فِي مُقْتَضَى بَيَانِهِ؛ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِفْرَادِ الطَّاعَتَيْنِ تَبَايُنُ الْمُطَاعِ فِيهِ بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فِي السُّنَّةِ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ، بَلْ قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْمَعْنَى، وَيَقَعُ الْعِصْيَانَانِ وَالطَّاعَتَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا مُحَالَ فِيهِ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي وُجُودِ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ، يَأْتِي عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فِي السُّؤَال: فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الزَّائِدَ؛ هَلْ هُوَ زِيَادَةُ الشَّرْحِ عَلَى الْمَشْرُوحِ إِذْ كَانَ لِلشَّرْحِ بَيَانٌ لَيْسَ فِي الْمَشْرُوحِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْحًا، أَمْ هُوَ زِيَادَةُ مَعْنًى آخَرَ لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ؟ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَتَنَزَّلُ الْوَجْهُ الثَّانِي. وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ إِجْمَالِيًّا وَهُوَ فِي السُّنَّةِ تَفْصِيلِيٌّ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ إِيَّاهُ؛ فَقَوْلُهُ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أَجْمَلَ فِيهِ مَعْنَى الصَّلَاةِ، وَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَظَهَرَ مِنَ الْبَيَانِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُبَيَّنِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْبَيَانِ هُوَ مَعْنَى الْمُبَيَّنِ، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ يَخْتَلِفَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ فِي الْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ التَّوَقُّفُ، وَفِي الْبَيَانِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَا حُكْمًا صَارَ كَاخْتِلَافِهِمَا مَعْنًى؛ فَاعْتُبِرَتِ السُّنَّةُ اعْتِبَارَ الْمُفْرَدِ عَنِ الْكِتَابِ وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَإِنَّمَا وَقَعَ الْخُرُوجُ عَنِ السُّنَّةِ فِي أُولَئِكَ لِمَكَانِ إِعْمَالِهِمُ الرَّأْيَ وَاطِّرَاحِهِمُ السُّنَنَ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ كَمَا تَبَيَّنَ تُوَضِّحُ الْمُجْمَلَ، وَتُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ الْعُمُومَ؛ فَتُخْرِجُ كَثِيرًا مِنَ الصِّيَغِ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ ظَاهِرِ مَفْهُومِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ بَيَانَ السُّنَّةِ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الصِّيَغِ، فَإِذَا طُرِحَتْ وَاتُّبِعَ ظَاهِرُ الصِّيَغِ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى؛ صَارَ صَاحِبُ هَذَا النَّظَرِ ضَالًّا فِي نَظَرِهِ، جَاهِلًا بِالْكِتَابِ خَابِطًا فِي عَمْيَاءَ لَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ فِيهَا؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعُقُولِ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا النَّزْرِ الْيَسِيرِ، وَهِيَ الْأُخْرَوِيَّةُ أَبْعَدُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي النَّقْلِ؛ فَلَا حُجَّةَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ صَحَّ أَوْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ يُقْبَلُ مِثْلُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِمَّا وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ صِرْفٌ، وَإِمَّا اجْتِهَادٌ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعْتَبَرٌ بِوَحْيٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّنَاقُضُ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وَإِذَا فُرِّعَ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ فِي حَقِّهِ؛ فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الصَّوَابِ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْخَطَأِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ حُكْمًا يُعَارِضُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَيُخَالِفُهُ. نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ وَلَا مُوَافَقَةٌ، بَلْ بِمَا يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ؛ إِلَّا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْمُوَافَقَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ؛ فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ صَحَّ سَنَدُهُ أَوْ لَا. وَقَدْ خَرَّجَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي بَيَانِ مُشْكِلِ الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ؛ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحَدِيثٍ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنِدُّ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مُنْكَرٌ؛ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ؛ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ فِي مَجْلِسٍ، فَجَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُرَخَّصِ وَالْمُشَدَّدِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغُوا؛ قَالَ أَيْ هَؤُلَاءِ! مَا حَدِيثٌ بَلَغَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ، وَيَلِينُ لَهُ الْجِلْدُ، وَتَرْجُونَ عِنْدَهُ؛ فَصَدِّقُوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَقُولُ إِلَّا الْخَيْرَ. وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الْآيَةَ [الْأَنْفَال: 2] وَقَالَ: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الْآيَةَ [الزُّمَر: 23] وَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 83] فَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِهِ، وَكَانَ مَا يُحَدِّثُونَ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَفِي كَوْنِهِمْ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَجَبَ التَّوَقُّفُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا سِوَاهُ وَمَا قَالَهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لَا مُخَالِفًا فِي الْمَعْنَى؛ إِذْ لَوْ خَالَفَ لَمَا اقْشَعَرَّتِ الْجُلُودُ، وَلَا لَانَتِ الْقُلُوبُ؛ لِأَنَّ الضِّدَّ لَا يُلَائِمُ الضِّدَّ وَلَا يُوَافِقُهُ. وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ وَلَا تُنْكِرُونَهُ فَصَدِّقُوا بِهِ قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ؛ فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ فَكَذِّبُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ». وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ إِذَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ؛ وَجَبَ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَالَهُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ؛ فَقَدْ قَالَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ، إِذْ يَصِحُّ تَفْسِيرُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَعْجَمِيِّ بِكَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُخَالِفًا يُكَذِّبُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ؛ وَجَبَ أَنْ يُدْفَعَ، وَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ مِنَ الْجَمِيعِ صِحَّةُ اعْتِبَارِ الْحَدِيثِ بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَصِحَّ فَلَا عَلَيْنَا إِذِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ صَحِيحٌ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ؛ فَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْأَصْلِ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّ الْكِتَابُ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ؛ حَتَّى صَارَ مُتَضَمِّنًا لِكُلِّيَّتِهَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ بَيَانًا لَهُ فِي التَّفْصِيلِ وَهِيَ:
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَآخِذَ: مِنْهَا: مَا هُوَ عَامٌّ جِدًّا، وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى أَخْذِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ وَلُزُومِ الِاتِّبَاعِ لَهَا، وَهُوَ فِي مَعْنَى أَخْذِ الْإِجْمَاعِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 115] وَمِمَّنْ أَخَذَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؛ فَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ ذَيْتَ وَذَيْتَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَإِنَّنِي قَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَلَمْ أَجِدِ الَّذِي تَقُولُ! فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّه: أَمَا قَرَأْتِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الْحَشْر: 7]؟ قَالَتْ: بَلَى قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عَبْدُ اللَّه: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ! فَقَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْر: 7] الْحَدِيثَ. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ لَهَا: هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْر: 7] دُونَ قَوْلِه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النِّسَاء: 119] أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ؛ فَنَهَاهُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي فَقَرَأَ عَلَيْه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ [الْحَشْر: 7] وَرُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتْرُكْهُمَا فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ فَلَا أَدْرِي أَتُعَذَّبُ عَلَيْهَا أَمْ تُؤْجَرُ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الْأَحْزَاب: 36] وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمَةَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ؛ فَقَالَ: هُنَّ أَحْرَارٌ قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: بِالْقُرْآنِ قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ} [النِّسَاء: 59] وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ قَالَ: عَتَقَتْ وَلَوْ بِسَقْطٍ. وَهَذَا الْمَأْخَذُ يُشْبِهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى إِعْمَالِ السُّنَّةِ أَوْ هُوَ هُوَ، وَلَكِنَّهُ أُدْخِلَ مُدْخَلَ الْمَعَانِي التَّفْصِيلِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنْهَا: الْوَجْهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ الْعَمَلِ أَوْ أَسْبَابِهِ أَوْ شُرُوطِهِ أَوْ مَوَانِعِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ كَبَيَانِهَا لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي مَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَبَيَانِهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَنُصُبِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ وَتَعْيِينِ مَا يُزَكَّى مِمَّا لَا يُزَكَّى، وَبَيَانِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَمَا فِيهِ مِمَّا لَمْ يَقَعِ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ الْحَدَثِيَّةُ وَالْخَبَثِيَّةُ، وَالْحَجُّ وَالذَّبَائِحُ وَالصَّيْدُ وَمَا يُؤْكَلُ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ وَالْأَنْكِحَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ، وَالْبُيُوعُ وَأَحْكَامُهَا، وَالْجِنَايَاتُ مِنَ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمَا وَقَعَ مُجْمَلًا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ دُخُولُهُ تَحْتَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْل: 44] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ؛ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ؛ أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟ ثُمَّ عَدَّدَ إِلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا، وَإِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّير: لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلًا، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي تُفَسِّرُ ذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْكِتَابِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَى أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ؛ فَقَالَ مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ. فَهَذَا الْوَجْهُ فِي التَّفْصِيلِ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَأَشْهَرُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ زِيَادَةً إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ وَالشَّرْحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ أَتَى بِالتَّعْرِيفِ بِمَصَالِحِ الدَّارَيْنِ جَلْبًا لَهَا، وَالتَّعْرِيفِ بِمَفَاسِدِهِمَا دَفْعًا لَهَا، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْمَصَالِحَ لَا تَعْدُو الثَّلَاثَةَ الْأَقْسَامِ، وَهِيَ: الضَّرُورِيَّاتُ، وَيُلْحَقُ بِهَا مُكَمِّلَاتُهَا. وَالْحَاجِيَّاتُ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا مُكَمِّلَاتُهَا. وَالتَّحْسِينِيَّاتُ، وَيَلِيهَا مُكَمِّلَاتُهَا. وَلَا زَائِدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى السُّنَّةِ وَجَدْنَاهَا لَا تَزِيدُ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَالْكِتَابُ أَتَى بِهَا أُصُولًا يُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ أَتَتْ بِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الْكِتَابِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهِ مِنْهَا؛ فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا مَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ فَالضَّرُورِيَّاتُ الْخَمْسُ كَمَا تَأَصَّلَتْ فِي الْكِتَابِ تَفَصَّلَتْ فِي السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ حِفْظَ الدِّينِ حَاصِلُهُ فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ؛ فَأَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ، وَبَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ، وَمُكَمِّلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَهِيَ: الدُّعَاءُ إِلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَجِهَادُ مَنْ عَانَدَهُ أَوْ رَامَ إِفْسَادَهُ. وَتَلَافِي النُّقْصَانِ الطَّارِئِ فِي أَصْلِهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ فِي الْكِتَابِ وَبَيَانُهَا فِي السُّنَّةِ عَلَى الْكَمَالِ. وَحِفْظُ النَّفْسِ حَاصِلُهُ فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ، وَهِيَ: إِقَامَةُ أَصْلِهِ بِشَرْعِيَّةِ التَّنَاسُلِ، وَحِفْظُ بَقَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَذَلِكَ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمَلْبَسُ وَالْمَسْكَنُ، وَذَلِكَ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ خَارِجٍ وَجَمِيعُ هَذَا مَذْكُورٌ أَصْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَمُبَيَّنٌ فِي السُّنَّةِ، وَمُكَمِّلُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، وَذَلِكَ حِفْظُهُ عَنْ وَضْعِهِ فِي حَرَامٍ كَالزِّنَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ؛ كَالطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَاللِّعَانِ، وَغَيْرِهَا، وَحِفْظُ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَضُرُّ أَوْ يَقْتُلُ أَوْ يُفْسِدُ، وَإِقَامَةُ مَا لَا تَقُومُ هَذِهِ الْأُمُورُ إِلَّا بِهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ، وَشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَمُرَاعَاةِ الْعَوَارِضِ اللَّاحِقَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَقَدْ دَخَلَ حِفْظُ النَّسْلِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَأُصُولُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا، وَحِفْظُ الْمَالِ رَاجِعٌ إِلَى مُرَاعَاةِ دُخُولِهِ فِي الْأَمْلَاكِ وَكَتَنْمِيَتِهِ أَنْ لَا يَفِيَ وَمُكَمِّلُهُ دَفْعُ الْعَوَارِضِ، وَتَلَافِي الْأَصْلِ بِالزَّجْرِ وَالْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَحِفْظُ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ مَا لَا يُفْسِدُهُ وَالِامْتِنَاعَ مِمَّا يُفْسِدُهُ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَمُكَمِّلُهُ شَرْعِيَّةُ الْحَدِّ أَوِ الزَّجْرِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْخُصُوصِ؛ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي السُّنَّةِ حُكْمٌ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْضًا؛ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِالضَّرُورِيَّاتِ حِفْظُ الْعِرْضِ؛ فَلَهُ فِي الْكِتَابِ أَصْلٌ شَرَحَتْهُ السُّنَّةُ فِي اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ، هَذَا وَجْهٌ فِي الِاعْتِبَارِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَلَكَ أَنْ تَأْخُذَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ؛ فَيَحْصُلُ الْمُرَادُ أَيْضًا وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْحَاجِيَّاتِ اطَّرَدَ النَّظَرُ أَيْضًا فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَإِنَّ الْحَاجِيَّاتِ دَائِرَةٌ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ وَكَذَلِكَ التَّحْسِينِيَّاتُ. وَقَدْ كَمُلَتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ؛ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا شَيْءٌ وَالِاسْتِقْرَاءُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَيَسْهُلُ عَلَى مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمَّا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ كَذَلِكَ قَالُوا بِهِ وَنَصُّوا عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ. وَمَنْ تَشَوَّفَ إِلَى مَزِيدٍ؛ فَإِنَّ دَوَرَانَ الْحَاجِيَّاتِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَالتَّيْسِيرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَالرِّفْقِ. فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ يَظْهَرُ فِي مَوَاضِعَ شَرْعِيَّةٍ الرُّخَصُ فِي الطَّهَارَةِ؛ كَالتَّيَمُّمِ، وَرَفْعِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فِيمَا إِذَا عَسُرَ إِزَالَتُهَا، وَفِي الصَّلَاةِ بِالْقَصْرِ، وَرَفْعِ الْقَضَاءِ فِي الْإِغْمَاءِ، وَالْجَمْعِ، وَالصَّلَاةِ قَاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ، وَفِي الصَّوْمِ بِالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ؛ فَالْقُرْآنُ إِنْ نَصَّ عَلَى بَعْضِ التَّفَاصِيلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ فَذَاكَ، وَإِلَّا؛ فَالنُّصُوصُ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِيهِ كَافِيَةٌ وَلِلْمُجْتَهِدِ إِجْرَاءُ الْقَاعِدَةِ وَالتَّرَخُّصُ بِحَسَبِهَا، وَالسُّنَّةُ أَوَّلُ قَائِمٍ بِذَلِكَ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّفْسِ أَيْضًا يَظْهَرُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَوَاضِعُ الرُّخَصِ؛ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَشَرْعِيَّةِ الْمُوَاسَاةِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ فِيهِ مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ مَا يَتَأَتَّى بِالذَّكَاةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفِي التَّنَاسُلِ مِنَ الْعَقْدِ عَلَى الْبُضْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ صَدَاقٍ، وَإِجَازَةِ بَعْضِ الْجَهَالَاتِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى تَرْكِ الْمُشَاحَّةِ كَمَا فِي الْبُيُوعِ، وَجَعْلِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا دُونَ مَا هُوَ أَكْثَرُ، وَإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْخُلْعِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ أَيْضًا فِي التَّرْخِيصِ فِي الْغَرَرِ الْيَسِيرِ، وَالْجَهَالَةِ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ، وَرُخْصَةِ السَّلَمِ وَالْعَرَايَا وَالْقَرْضِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي ادِّخَارِ الْأَمْوَالِ، وَإِمْسَاكُ مَا هُوَ فَوْقَ الْحَاجَةِ مِنْهَا، وَالتَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ عَلَى جِهَةِ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكْرَهِ، وَعَنِ الْمُضْطَرِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ فِي الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ اجْتِهَادِيٌّ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِنْهُ مَا يُحْتَذَى حَذْوُهُ؛ فَرَجَعَ إِلَى تَفْسِيرِ مَا أُجْمِلَ مِنَ الْكِتَابِ، وَمَا فُسِّرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ؛ فَالسُّنَّةُ لَا تَعْدُوهُ وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ. وَقِسْمُ التَّحْسِينِيَّاتِ جَارٍ أَيْضًا كَجَرَيَانِ الْحَاجِيَّاتِ؛ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا يَحْسُنُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، عَلَى رَأْيِ مَنْ رَأَى أَنَّهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَمَحَاسِنِ الْهَيْئَاتِ وَالطِّيبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَانْتِخَابِ الْأَطْيَبِ وَالْأَعْلَى فِي الزَّكَوَاتِ وَالْإِنْفَاقَاتِ، وَآدَابِ الرِّفْقِ فِي الصِّيَامِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّفُوسِ كَالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ، وَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّسْلِ؛ كَالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، مِنْ عَدَمِ التَّضْيِيقِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَبَسْطِ الرِّفْقِ فِي الْمُعَاشَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَالِ؛ كَأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ إِشْرَافِ نَفْسٍ وَالتَّوَرُّعِ فِي كَسْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَالْبَذْلِ مِنْهُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَقْلِ؛ كَمُبَاعَدَةِ الْخَمْرِ وَمُجَانَبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ اسْتِعْمَالَهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يُرَادُ بِهِ الْمُجَانَبَةُ بِإِطْلَاقٍ. فَجَمِيعُ هَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ بَيَّنَهُ الْكِتَابُ عَلَى إِجْمَالٍ أَوْ تَفْصِيلٍ أَوْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ قَاضِيَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ فِي الْفَهْمِ، وَأَشْفَى فِي الشَّرْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ، وَالْعَاقِلُ يَتَهَدَّى مِنْهُ لِمَا لَمْ يُذْكَرُ مِمَّا أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَجَالِ الِاجْتِهَادِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَمَجَالِ الْقِيَاسِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَهُوَ الْمُبَيَّنُ فِي دَلِيلِ الْقِيَاسِ وَلْنَبْدَأْ بِالْأَوَّل: وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ النَّصُّ عَلَى طَرَفَيْنِ مُبَيَّنَيْنِ فِيهِ أَوْ فِي السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْخَذِ الثَّانِي، وَتَبْقَى الْوَاسِطَةُ عَلَى اجْتِهَادٍ، وَالتَّبَايُنُ لِمُجَاذَبَةِ الطَّرَفَيْنِ إِيَّاهَا؛ فَرُبَّمَا كَانَ وَجْهُ النَّظَرِ فِيهَا قَرِيبُ الْمَأْخَذِ؛ فَيُتْرَكُ إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ، وَرُبَّمَا بَعُدَ عَلَى النَّاظِرِ أَوْ كَانَ مَحَلَّ تَعَبُّدٍ لَا يَجْرِي عَلَى مَسْلَكِ الْمُنَاسِبَةِ؛ فَيَأْتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْبَيَانُ وَأَنَّهُ لَاحِقٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ آخِذٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَجْهٍ احْتِيَاطِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَبَقِيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَشْيَاءُ يُمْكِنُ لَحَاقُهَا بِأَحَدِهِمَا؛ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ مَا اتَّضَحَ بِهِ الْأَمْرُ؛ فَنَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّهَا رِكْسٌ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الْقُنْفُذِ؛ قَالَ كُلْ. وَتَلَا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 145] فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: هُوَ خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا وَذَلِكَ لِمَا فِي لَحْمِهَا وَلِبَنِهَا مِنْ أَثَرِ الْجِلَّةِ وَهِيَ الْعَذِرَةُ. فَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِلْحَاقِ بِأَصْلِ الْخَبَائِثِ، كَمَا أَلْحَقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الضَّبَّ وَالْحُبَارَى وَالْأَرْنَبَ وَأَشْبَاهَهَا بِأَصْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ مَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ؛ كَالْمَاءِ، وَاللَّبَنِ، وَالْعَسَلِ وَأَشْبَاهِهَا، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْعَقْلِ الْمُوقِعِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ؛ فَوَقَعَ فِيمَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مَا لَيْسَ بِمُسْكِرٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُسْكِرَ، وَهُوَ نَبِيذُ الدُّبَّاءِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَالنَّقِيرِ وَغَيْرِهَا؛ فَنَهَى عَنْهَا إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمُسْكِرَاتِ تَحْقِيقًا؛ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ؛ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ وَالْعَسَلِ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الِانْتِبَاذِ؛ فَانْتَبِذُوا وَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَبَقِيَ فِي قَلِيلِ الْمُسْكِرِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ التَّحْرِيمِ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ نَهَى عَنِ الْخَلِيطَيْنِ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَهَى مِنْ أَجْلِهِ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَهَذَا وَنَحْوُهُ دَائِرٌ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فَكَانَ الْبَيَانُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ يُعَيِّنُ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا إِلَى أَيِّ جِهَةٍ يُضَافُ مِنَ الْأَصْلَيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ مِنْ صَيْدِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَصَيْدُهُ حَرَامٌ، إِذْ لَمْ يُمْسِكْ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ؛ فَدَارَ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مَا كَانَ مُعَلَّمًا وَلَكِنَّهُ أَكَلَ مِنْ صَيْدِهِ؛ فَالتَّعْلِيمُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَالْأَكْلُ يَقْتَضِي أَنَّهُ اصْطَادَ لِنَفْسِهِ لَا لَكَ، فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَيْكَ» وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» الْحَدِيثَ وَجَمِيعُ ذَلِكَ رُجُوعٌ لِلْأَصْلَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الصَّيْدَ مُطْلَقًا، وَجَاءَ أَنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا الْجَزَاءَ، وَأُبِيحَ لِلْحَلَالِ مُطْلَقًا؛ فَمَنْ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ قَتْلُهُ خَطَّأً فِي مَحَلِّ النَّظَرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ قَالَ الزُّهْرِيُّ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ، وَهُوَ فِي الْخَطَأِ سُنَّةٌ وَالزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَنِ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ قَدْ بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ، وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ لِأَخْذِهَا بِطَرَفٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَبَيَّنَ صَاحِبُ السُّنَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ. فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» الْحَدِيثَ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ: «وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ»، الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْد: «فَإِذَا اخْتَلَطَ بِكِلَابِكَ كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَلَا تَأْكُلْ، لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ قَتَلَهُ الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا». وَقَالَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَقَدْ كَانَتْ تُطْرَحُ فِيهَا الْحِيَضُ وَالْعَذِرَاتُ: «خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» فَحَكَمَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَجَاءَ فِي الصَّيْد: «كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ». وَقَالَ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَرْثِ فِي الرَّضَاعِ؛ إِذْ أَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ بِأَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي أَرَادَ تَزَوُّجَهَا، قَالَ فِيه: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ الزِّنَى، وَأَحَلَّ التَّزْوِيجَ وَمِلْكِ الْيَمِينَ، وَسَكَتَ عَنِ النِّكَاحِ الْمُخَالِفِ لِلْمَشْرُوعِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ مَحْضٍ وَلَا سِفَاحٍ مَحْضٍ؛ فَجَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَكُونَ مَحَلًّا لِاجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ فِي إِلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَبِالْأَصْلِ الْآخَرِ فِي حَالٍ آخَرَ؛ فَجَاءَ فِي الْحَدِيث: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا؛ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا؛ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا»، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا جَاءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مِنَ السُّنَّةِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ صَيْدَ الْبَحْرِ فِيمَا أَحَلَّ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ فِيمَا حَرَّمَ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَدَارَتْ مَيْتَةُ الْبَحْرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَأَشْكَلَ حُكْمُهَا؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ، «وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيث: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَان: الْحِيتَانُ، وَالْجَرَادُ» وَأَكَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا قَذَفَهُ الْبَحْرُ لَمَّا أَتَى بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَأَقَصَّ مِنَ الْأَطْرَافِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 50] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، هَذَا فِي الْعَمْدِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ؛ فَالدِّيَةُ لِقَوْلِه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّسَاء: 92] وَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةَ الْأَطْرَافِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَجَاءَ طَرَفَانِ أُشْكِلَ بَيْنَهُمَا الْجَنِينُ إِذَا أَسْقَطَتْهُ أُمُّهُ بِالضَّرْبَةِ وَنَحْوِهَا؛ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ جُزْءَ الْإِنْسَانِ كَسَائِرِ الْأَطْرَافِ، وَيُشْبِهُ الْإِنْسَانَ التَّامَّ لِخِلْقَتِهِ؛ فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ فِيهِ أَنَّ دِيَتَهُ الْغُرَّةُ، وَأَنَّ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ لِعَدَمِ تَمَحُّضِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَهُ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَأَبَاحَ الْمُذَكَّاةَ؛ فَدَارَ الْجَنِينُ الْخَارِجُ مِنْ بَطْنِ الْمُذَكَّاةِ مَيِّتًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَاحْتَمَلَهُمَا؛ فَقَالَ فِي الْحَدِيث: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النِّسَاء: 11]؛ فَبَقِيَتِ الْبِنْتَانِ مَسْكُوتًا عَنْهُمَا؛ فَنُقِلَ فِي السُّنَّةِ حُكْمُهُمَا، وَهُوَ إِلْحَاقُهُمَا بِمَا فَوْقَ الْبِنْتَيْنِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَرَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا، أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا؛ فَيَأْخُذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِطَرَفٍ؛ فَلَا يَخْرُجْ عَنْهُمَا وَلَا يَعْدُوهُمَا وَأَمَّا مَجَالُ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أُصُولٌ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ نَحْوِهَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهَا، وَتُقَرِّبُ إِلَى الْفَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ إِطْلَاقِهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقَيِّدَاتِ مِثْلُهَا فَيَجْتَزِي بِذَلِكَ الْأَصْلِ عَنْ تَفْرِيعِ الْفُرُوعِ اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ فِيهِ، وَهَذَا النَّحْوُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي حُكْمِ الْعَامِّ مَعْنًى، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَوَجَدْنَا فِي الْكِتَابِ أَصْلًا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ مَا يَلْحَقُ بِهِ أَوْ يُشْبِهُهُ أَوْ يُدَانِيهِ؛ فَهُوَ الْمَعْنَى هَاهُنَا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِالْوَحْيِ؛ إِلَّا أَنَّهُ جَارٍ فِي أَفْهَامِنَا مَجْرَى الْمَقِيسِ، وَالْأَصْلُ الْكِتَابُ شَامِلٌ لَهُ بِالْمَعْنَى الْمُفَسَّرِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ الرِّبَا، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قَالُوا فِيه: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 275] هُوَ فَسْخُ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، يَقُولُ الطَّالِبُ: إِمَّا أَنْ تَقْتَضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [الْبَقَرَة: 279]؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ». وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْعُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ؛ أَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِهِ كُلَّ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ؛ فَقَدْ أَرْبَى»، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ثُمَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بَيْعُ النَّسَاءِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَصْنَافُ، وَعَدَّهُ مِنَ الرِّبَا لِأَنَّ النَّسَاءَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِحُكْمِ الْمَعْنَى السَّلَفُ يَجُرُّ نَفْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْعَ هَذَا الْجِنْسِ بِمِثْلِهِ فِي الْجِنْسِ مِنْ بَابِ بَدَلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ؛ لِتُقَارُبِ الْمَنَافِعِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهَا؛ فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ إِعْطَاءِ عَوَضٍ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَالْأَجَلُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَكُونُ عَادَةً إِلَّا عِنْدَ مُقَارَنَةِ الزِّيَادَةِ بِهِ فِي الْقِيمَةِ؛ إِذْ لَا يُسَلَّمُ الْحَاضِرُ فِي الْغَائِبِ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنَ الْحَاضِرِ فِي الْقِيمَةِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ. وَيَبْقَى النَّظَرُ: لِمَ جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَلَمْ يَجُزْ فِيهِمَا؟ مَحَلُّ نَظَرٍ يَخْفَى وَجْهُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ مِنْ أَخْفَى الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحْ مَعْنَاهَا إِلَى الْيَوْمِ؛ فَلِذَلِكَ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ بَيِّنَةً لَوُكِّلَ فِي الْغَالِبِ أَمْرُهَا إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ، كَمَا وُكِّلَ إِلَيْهِمُ النَّظَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَحَالِّ الِاجْتِهَادِ؛ فَمِثْلُ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ؛ فَتَأَمَّلْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُمِّ وَابْنَتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَجَاءَ فِي الْقُرْآن: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاء: 24] فَجَاءَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ذَمَّ الْجَمْعَ بَيْنَ أُولَئِكَ مَوْجُودٌ هُنَا، وَقَدْ يُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيث: «فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» وَالتَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَاءَ الطَّهُورَ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ؛ فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِإِلْحَاقِ مَاءِ الْبَحْرِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمِيَاهِ بِأَنَّهُ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدِّيَةَ فِي النَّفْسِ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَاتِ الْأَطْرَافِ، وَهِيَ مِمَّا يُشْكِلُ قِيَاسُهَا عَلَى الْعُقُولِ؛ فَبَيَّنَ الْحَدِيثُ مِنْ دِيَاتِهَا مَا وَضَّحَ بِهِ السَّبِيلَ، وَكَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْقِيَاسِ الَّذِي يُشْكِلُ أَمْرُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَيُحْذَى حَذْوُهُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ: مِنَ النِّصْفِ، وَالرُّبُعِ، وَالثُّمُنِ، وَالثُّلُثِ، وَالسُّدُسِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِيرَاثَ الْعَصَبَةِ إِلَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْأَبَوَيْن: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 11] وَقَوْلُهُ فِي الْأَوْلَاد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 11] وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْكَلَالَة: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النِّسَاء: 176] وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 176] فَاقْتَضَى أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ الْمَذْكُورَةِ فَلِلْعَصَبَةِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْعَصَبَةِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ؛ كَالْجَدِّ، وَالْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمِّ، وَأَشْبَاهِهِمْ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا؛ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ»؛ فَأَتَى هَذَا عَلَى مَا بَقِيَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَعْدَ مَا نَبَّهَ الْكِتَابُ عَلَى أَصْلِهِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ تَحْرِيمِ الرَّضَاعَةِ قَوْلَهُ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاء: 23] فَأَلْحَقُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَاتَيْنِ سَائِرَ الْقَرَابَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ الَّتِي يَحْرُمْنَ مِنَ النَّسَبِ كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ، وَبِنْتِ الْأُخْتِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَجِهَةُ إِلْحَاقِهَا هِيَ جِهَةُ الْإِلْحَاقِ بِالْقِيَاسِ إِذْ ذَاكَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، نَصَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ إِذْ كَانَ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ سِوَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ بَيْنَ الْإِلْحَاقِ وَالْقَصْرِ عَلَى التَّعَبُّدِ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرَّمَ مِنَ النَّسَبِ»، وَسَائِرَ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ أَلْحَقَ بِالْإِنَاثِ الذُّكُورَ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ، وَمِنْ جِهَتِهِ دَرُّ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِالرِّضَاعِ أُمًّا؛ فَالَّذِي لَهُ اللَّبَنُ أَبٌ بِلَا إِشْكَالٍ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ؛ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [الْبَقَرَة: 126] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [الْعَنْكَبُوت: 67] وَذَلِكَ حَرَمُ اللَّهِ مَكَّةُ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ؛ فَأَجَابَهُ اللَّهُ وَحَرَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، فَقَالَ: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عَضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَمِثْلُهُ فِي صَحِيفَةِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِمَكَّةَ فِي الْحُرْمَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى قَوْلِه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْحَجّ: 25] وَالْإِلْحَادُ شَامِلٌ لِكُلِّ عُدُولٍ عَنِ الصَّوَابِ إِلَى الظُّلْمِ، وَارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ عَلَى تَنَوُّعِهَا، حَسْبَمَا فَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ؛ فَالْمَدِينَةُ لَاحِقَةٌ بِهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالثَّامِنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 282]؛ فَحَكَمَ فِي الْأَمْوَالِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْضَمَّةً إِلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَظَهَرَ بِهِ ضَعْفُ شَهَادَتِهِنَّ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِه: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ» وَفَسَّرَ نُقْصَانَ الْعَقْلِ بِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ. وَحِينَ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ فِيه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَة: 282]؛ دَلَّ عَلَى انْحِطَاطِهِنَّ عَنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ، فَأَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ؛ فَقَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فِي اقْتِطَاعِ الْحُقُوقِ وَاقْتِضَائِهَا حُكْمًا قَضَى بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 77] فَجَرَى الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّهُ يَخْفَى؛ فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْبَيْعَ فِي الرِّقَابِ وَأَحَلَّهُ، وَذَكَرَ الْإِجَارَةَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ كَالْجُعْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يُوسُفَ: 72] وَالْإِجَارَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي قَوْلِه: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 6] وَفِي الْعُمَّالِ عَلَى الصَّدَقَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التَّوْبَة: 60] وَفِي بَعْضِ مَنَافِعَ لَا تَأْتِي عَلَى سَائِرِهَا؛ فَأَطْلَقَتِ السُّنَّةُ فِيهَا الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ مَنَافِعِ الرِّقَابِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا وَوَكَّلَ سَائِرَهَا إِلَى أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَجَالُ الْقِيَاسِيُّ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا عَلَيْنَا أَقَصَدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقِيَاسَ عَلَى الْخُصُوصِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَالْعَاشِرُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي شَأْنِ الرُّؤْيَا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ وَعَنْ رُؤْيَا يُوسُفَ وَرُؤْيَا الْفَتَيَيْنِ، وَكَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ كُلِّ رُؤْيَا؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْكَامَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ، وَأَنَّهَا عَلَى أَقْسَامٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَتَضَمَّنَ إِلْحَاقَ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ بِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقِيَاسِ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى مَا يَتَأَلَّفُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنْ مَعَانٍ مُجْتَمِعَةٍ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ تَأْتِي فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَكِنْ يَشْمَلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ شَبِيهٌ بِالْأَمْرِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ؛ فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فَيُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لِلْكِتَابِ، وَمِثَالُ هَذَا الْوَجْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي طَلَبِ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» مِنَ الْكِتَابِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَحَادِيثِ؛ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى تَفَاصِيلِ الْأَحَادِيثِ فِي تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ بَيَانٌ زَائِدٌ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَأْخَذِ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَجِدَ كُلَّ مَعْنًى فِي السُّنَّةِ مُشَارًا إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ وَضْعِ اللُّغَةَ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلْنُمَثِّلْهُ ثُمَّ نَنْظُرْ فِي صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي تَطْلِيقِهِ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» يَعْنِي: أَمَرَهُ فِي قَوْلِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطَّلَاق: 1] وَالثَّانِي: حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً؛ إِذْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَلْبَتَّةَ وَشَأْنُ الْمَبْتُوتَةِ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَذَتْ عَلَى أَهْلِهَا بِلِسَانِهَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِه: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطَّلَاق: 1]. وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ؛ إِذْ وَلَدَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ، فَأَخْبَرَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ قَدْ حَلَّتْ؛ فَبَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَة: 234] مَخْصُوصٌ فِي غَيْرِ الْحَامِلِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلَاق: 4] عَامٌّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ وَغَيْرِهِنَّ. وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الْبَقَرَة: 59] قَالَ: قَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ يَعْنِي: عِوَضَ قَوْلِه: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَة: 58]. وَالْخَامِسُ: حَدِيثُ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا؛ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [الْبَقَرَة: 125]؛ فَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 158]. وَالسَّادِسُ: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] قَالَ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِه: {دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ: 60]. وَالسَّابِعُ: حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [الْبَقَرَة: 187] قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ». وَالثَّامِنُ: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَقَالَ يَوْمَ الْأَحْزَاب: «اللَّهُمَّ امْلَأْ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ». وَالتَّاسِعُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ لِخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185]». وَالْعَاشِرُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْكَبَائِر: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَقَوْلُ الزُّورِ»، وَثَمَّ أَحَادِيثُ أُخَرُ فِيهَا ذِكْرُ الْكَبَائِرِ، وَجَمِيعُهَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 31] وَهَذَا النَّمَطُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفِي بِهَذَا الْمَقْصُودِ عَلَى شَرْطِ النَّصِّ وَالْإِشَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَسْتَعْمِلُهَا الْعَرَبُ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَوَّلُ شَاهِدٍ فِي هَذَا الصَّلَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالزَّكَاةُ وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقِرَاضُ، وَالْمُسَاقَاةُ، وَالدِّيَاتُ، وَالْقَسَامَاتُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ لَا تُحْصَى؛ فَالْمُلْتَزِمُ لِهَذَا لَا يَفِي بِمَا ادَّعَاهُ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ مَآخِذَ لَا يَقْبَلُهَا كَلَامُ الْعَرَبِ وَلَا يُوَافِقُ عَلَى مِثْلِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَلَا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَلَقَدْ رَامَ بَعْضُ النَّاسِ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ الَّذِي شَرَعَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يُوَفِّ بِهِ إِلَّا عَلَى التَّكَلُّفِ الْمَذْكُورِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمَآخِذِ الْأُوَلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إِشَارَةٌ إِلَى خُصُوصَاتِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ نَازِلًا بِقَصْدِهِ الَّذِي قَصَدَ وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانِيَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَرَّجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي كِتَابِهِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ، دُونَ مَا سِوَاهَا مِمَّا نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ سِوَاهُ، وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَعَانِي الْمُصَنَّفَةِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمَآخِذِ مُوَفِّيًا بِالْغَرَضِ فِي الْبَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَالُوا إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا؛ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ» إِلَى آخِرِهِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ يَطْرَحُ السُّنَّةَ مُعْتَمِدًا عَلَى رَأْيِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَهَذَا لَمْ نَدَعْهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ هُوَ رَأْيُ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَقَوْلُهُ: «أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» صَحِيحٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ؛ إِمَّا بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الدَّائِرِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالطَّرِيقَةِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِهَا مِنَ الْمَآخِذِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَمَرَّ الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَعَنِ الْعَقْلِ. وَأَمَّا فِكَاكُ الْأَسِيرِ؛ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الْأَنْفَال: 72] وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَّا بِالِانْتِصَارِ بِغَيْرِهِ فَعَلَى الْغَيْرِ النَّصْرُ، وَالْأَسِيرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِالنَّصْرِ، فَهُوَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ الْقِيَاسِيِّ. وَأَمَّا أَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ؛ فَقَدِ انْتَزَعَهَا الْعُلَمَاءُ مِنَ الْكِتَابِ كَقَوْلِه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النِّسَاء: 141] وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الْحَشْر: 20] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّنْصِيصِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَجْعَلْهَا عَلِيٌّ خَارِجَةً عَنِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ قَالَ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ لَعَدَّ الثِّنْتَيْنِ دُونَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَ الْقِيَاسِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [الْبَقَرَة: 178] فَلَمْ يُقِدْ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ، وَالْعُبُودِيَّةُ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ؛ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقَادَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ وَأَمَّا إِخْفَارُ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَأَقْرَبُ الْآيَاتِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرَّعْد: 25] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْبَقَرَة: 27] وَقَدْ مَرَّ تَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ وَانْتِزَاعُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ؛ فَدَاخِلٌ بِالْمَعْنَى فِي قَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الِانْتِفَاءَ مِنْ وَلَاءِ صَاحِبِ الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ ذَلِكَ الْوَلَاءِ، كَمَا هُوَ فِي الِانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النَّحْل: 72] وَصِدْقُ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِه: «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ؛ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ». وَفِيه: إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا حَصَلَ بَيَانُهُ فِيهِ؛ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي السُّنَّةِ، وَإِلَّا؛ فَالِاجْتِهَادُ يَقْضِي عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
حَيْثُ قُلْنَا إِنَّ الْكِتَابَ دَالٌّ عَلَى السُّنَّةِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُبَيِّنَةً لَهُ؛ فَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِذْنِ أَوْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ جِهَةِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا كَانَ أَوْ مَا يَكُونُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا إِذْنٌ فَعَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا أَنْ يَقَعَ فِي السُّنَّةِ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْآنِ؛ فَهَذَا لَا نَظَرَ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَة: 58] قَالَ: دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ. وَفِي قَوْلِه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الْبَقَرَة: 59] قَالَ: قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَفِي قَوْلِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 143] قَالَ: «يُدْعَى نُوحٌ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ فَيُقَالُ مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ قَالَ: فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ؛ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَة: 143]» وَفِي قَوْلِه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] قَالَ: «إِنَّكُمْ تَتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ». وَفِي قَوْلِه: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 169]: «إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 158]: الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» وَفِي قَوْلِه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمُ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 172] قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ» الْحَدِيثَ وَفِي قَوْلِه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هُودٍ: 80] قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ؛ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ» وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي. » وَسَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الْإِسْرَاء: 101] فَفَسَّرَهَا لَهُمْ وَحَدِيثُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ ثَابِتٌ صَحِيحٌ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّات: 89] قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: قَوْلِه إِنِّي سَقِيمٌ» الْحَدِيثَ وَقَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاء: 104]» وَفِي قَوْلِه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجّ: 1] قَالَ: «ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ» الْحَدِيثَ وَقَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقَعَ مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ، وَلَا فِيهِ مَعْنَى تَكْلِيفٍ اعْتِقَادِيٍّ أَوْ عَمَلِيٍّ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَوْقِعِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِذَلِكَ؛ فَالسُّنَّةُ إِذَا خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ نَمَطٌ صَالِحٌ فِي الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، وَحَدِيثِ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ، وَوَفَاةِ مُوسَى، وَجُمَلٌ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْأُمَمُ قَبْلَنَا، مِمَّا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ نَحْوٌ مِمَّا فِي الْقَصَصِ الْقُرْآنِيِّ، وَهُوَ نَمَطٌ رُبَّمَا رَجَعَ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ فَهُوَ خَادِمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَمَعْدُودٌ فِي الْمُكَمِّلَاتِ لِضَرُورَةِ التَّشْرِيعِ؛ فَلَمْ يَخْرُجْ بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السُّنَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ كَمَا تَقَدَّمَ: قَوْلٌ، وَفِعْلٌ، وَإِقْرَارٌ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْكَارِ لَوْ كَانَ مُنْكَرًا. فَأَمَّا الْقَوْلُ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَفْصِيلَ. وَأَمَّا الْفِعْلُ؛ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَفُّ عَنِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ فِعْلٌعِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْكَفَّ غَيْرُ فِعْلٍ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْفِعْلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ فِيهِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِهِ؛ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْكَلَامُ هَنَا مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَخُصُّ هَذَا الْمَوْضِعَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ أَبْلَغُ فِي بَابِ التَّأَسِّي وَالِامْتِثَالِ مِنَ الْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ؛ فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ وَكِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَوِ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِ مُطْلَقِ الْإِذْنِ؛ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْوَاعِهِ، فَمُطْلَقُ الْإِذْنِ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ؛ فَفِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالٍ أَمْ كَانَ مُطْلَقًا؛ فَالْمُطْلَقُ كَسَائِرِ الْمَفْعُولَاتِ لَهُ، وَالَّذِي فِي حَالٍ كَتَقْرِيرِهِ لِلزَّانِي إِذْ أَقَرَّ عِنْدَهُ فَبَالَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِ حَتَّى صَرَّحَ لَهُ بِلَفْظِ الْوَطْءِ الصَّرِيحِ وَمِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنَّمَا جَازَ لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِدَلِيلِ النَّهْيِ عَنِ التَّفَحُّشِ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ هُنَا فِعْلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى تَكْلِيفِيٌّ لَا تَعْرِيفِيٌّ؛ فَالتَّعْرِيفِيُّ هُوَ الْمَعْدُودُ فِي الْأَقْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ إِخْبَارًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالتَّكْلِيفِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يُعَرِّفُ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ، كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ كَذَلِكَ وَأَمَّا التَّرْكُ؛ فَمَحَلُّهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهُوَ الْمَكْرُوهُ وَالْمَمْنُوعُ؛ فَتَرْكُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَالٌّ عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا فِي حَالٍ؛ فَالْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا ظَاهِرٌ، وَالْمَتْرُوكُ فِي حَالٍ كَتَرْكِهِ الشَّهَادَةَ لِمَنْ نَحَلَ بَعْضَ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَأَشْهِدْ غَيْرِي؛ فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَقَدْ يَقَعُ التَّرْكُ لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ: مِنْهَا: الْكَرَاهِيَةُ طَبْعًا؛ كَمَا قَالَ فِي الضَّبِّ وَقَدِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِه: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَهَذَا تَرْكٌ لِلْمُبَاحِ بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ، وَلَا حَرَجَ فِيهِ. وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِحَقِّ الْغَيْرِ؛ كَمَا فِي تَرْكِهِ أَكْلَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ لِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ تَرْكُ مُبَاحٍ لِمُعَارَضَةِ حَقِّ الْغَيْرِ. وَمِنْهَا: التَّرْكُ خَوْفَ الِافْتِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّعَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ»، وَقَالَ لَمَّا أَعْتَمَ بِالْعَشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ: «لَوْلَا أَنْأَشُقَّعَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ». وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِمَا لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالْجُزْءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْكُلِّ؛ كَإِعْرَاضِهِ عَنْ سَمَاعِ غِنَاءِ الْجَارِيَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي الْحَدِيث: «لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي» وَالدَّدُ: اللَّهْوُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهَا: تَرْكُ الْمُبَاحِ الصِّرْفِ إِلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ؛ فَإِنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لِأَزْوَاجِهِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الْآيَةَ [الْأَحْزَاب: 51] عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَتَرَكَ مَا أُبِيحَ لَهُ إِلَى الْقَسْمِ الَّذِي هُوَ أَخْلَقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ، وَتَرَكَ الِانْتِصَارَ مِمَّنْ قَالَ لَهُ: اعْدِلْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَنَهَى مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، وَتَرَكَ قَتْلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَمَّتْ لَهُ الشَّاةَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ غَوْرَثَ بْنَ الْحَارِثِ إِذْ أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ الْحَدِيثَ وَمِنْهَا: التَّرْكُ لِلْمَطْلُوبِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: لَأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَقَالَ: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ تَرْجِعُ إِلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَرْكٍ بِإِطْلَاقٍ، كَيْفَ وَقَدْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَقَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ التَّنَاوُلُ مَمْنُوعًا أَوْ مَكْرُوهًا لِحَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ، هَذَا فِي غَيْرِ مُقَارَبَةِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مَعَ مُقَارَبَتِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا؛ فَهُوَ عَامٌّ فِيهِ وَفِي الْأُمَّةِ؛ فَلِذَلِكَ نَهَى آكِلَهَا عَنْ مُقَارَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِهَا لِمَنْ أَرَادَ مُقَارَبَتَهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَهُوَ مِنَ الرِّفْقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ؛ فَالتَّرْكُ هُنَالِكَ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الذَّرَائِعِ إِذَا كَانَ تَرْكًا لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ خَوْفًا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ خَوْفًا مِنْ مَآلٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ؛ صَارَ التَّرْكُ هُنَا مَطْلُوبًا. وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ فِيهِ رُجُوعُهُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْخَامِسُ؛ فَوَجْهُ النَّهْيِ الْمُتَوَجَّهِ عَلَى الْفِعْلِ حَتَّى حَصَلَ التَّرْكُ أَنَّ الرَّفِيعَ الْمَنْصِبِ مُطَالَبٌ بِمَا يَقْتَضِي مَنْصِبُهُ، بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَغَيْرَ لَائِقٍ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، حَسْبَمَا جَرَتْ بِهِ الْعِبَارَةُ عِنْدَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ فِي اعْتِبَارِهِمْ لَا فِي حَقِيقَةِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ، وَلَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ بَعْدَ الْقَسْمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ يَعْتَذِرُ إِلَى رَبِّهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ! هَذَا عَمَلِي فِيمَا أَمْلِكُ؛ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ، «يُرِيدُ بِذَلِكَ مَيْلَ الْقَلْبِ إِلَى بَعْضِ الزَّوْجَاتِ دُونَ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُمْلَكُ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا أَنْفُسِهَا. وَالَّذِي يُوَضِّحُ هَذَا الْمَوْضِعَ وَأَنَّ الْمَنَاصِبَ تَقْتَضِي فِي الِاعْتِبَارِ الْكَمَالِيِّ الْعَتْبَ عَلَى مَا دُونَ اللَّائِقِ بِهَا قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَفِي اعْتِذَارِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا، بِخَطِيئَتِهِ وَهِيَ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَدُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ يَأْسِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ، قَالُوا: وَبَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] وَهَذَا يَقْضِي بِأَنَّهُ دُعَاءٌ مُبَاحٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَقْصَرَ نَفْسَهُ لِرَفِيعِ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مِثْلِهِ مِثْلُ هَذَا؛ إِذْ كَانَ الْأَوْلَى الْإِمْسَاكَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ اعْتَذَرَ بِخَطِيئَتِهِ، وَهِيَ الثَّلَاثُ الْمَحْكِيَّاتُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِه: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ؛ فَعَدَّهَا كِذْبَاتٍ وَإِنْ كَانَتْ تَعْرِيضًا اعْتِبَارًا بِمَا ذُكِرَ. وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ فِي دَلِيلِ الْكِتَابِ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ لَمْ تُرَدَّ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَى مَا فِيهَا؛ فَهِيَ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، فَإِذَا عَرَضْنَا مَسْأَلَتَنَا عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ دُعَاءَهُ عَلَى قَوْمِهِ؛ فَقَالَ: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نُوحٍ: 26] وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَتْبٍ وَلَا لَوْمٍ، وَلَا خُرُوجٍ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ حَكَى أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} الْآيَةَ [نُوحٍ: 27] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّافَّات: 88، 89] وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ مَا يُشِيرُ إِلَى لَوْمٍ وَلَا عَتْبٍ، وَلَا مُخَالَفَةِ أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 63]؛ فَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا الْمَسَاقِ ذِكْرٌ لِمُخَالَفَةٍ، وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى عَتْبٍ، بَلْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصَّافَّات: 84]، وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْمَدْحِ بِالْمُوَافَقَةِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَسَاقِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 51] إِلَى آخِرِهَا؛ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ مَدْحَهُ وَمُنَاضَلَتَهُ عَنِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا نَاضَلَ بِهِ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ، وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقِيَامَةِ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ الشَّفَاعَةِ بِمَا يَذْكُرُهُ، وَكَذَلِكَ نُوحٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ هُنَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِبَارِ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا تَطْلُبُهُ بِهِ الْمَرْتَبَةُ؛ فَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَسْمِ. وَقَدْ مَدَدْتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ النَّفَسِ لِشَرَفِهِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ؛ لِبُيِّنَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي شَأْنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَا يَنْشَرِحُ لَهُ الصَّدْرُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَى بَيَانِهِ النَّفْسُ، مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَفِي آخِرِ فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي أَيْضًا مِمَّا يَتَمَهَّدُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ، وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَنَّ التَّرْكَ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ، لَكِنِ النَّهْيُ الِاعْتِبَارِيُّ. وَأَمَّا السَّادِسُ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْكِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ مَفْسَدَتَيْنِ؛ إِذْ يَطْلُبُ الذَّهَابَ إِلَى الرَّاجِحِ، وَيَنْهَى عَنِ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، وَالتَّرْكُ هُنَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ فَعَمِلَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنْ لَا حَرَجَ فِي الْفِعْلِ الَّذِي رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَقَرَّهُ، أَوْ سَمِعَ بِهِ فَأَقَرَّهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَخُصُّ الْمَوْضِعَ هُنَا أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ جِنْسٌ لِأَنْوَاعٍ: الْوَاجِبُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمُبَاحُ بِمَعْنَى الْمَأْذُونِ فِيهِ وَبِمَعْنَى أَنْ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ؛ فَغَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَهُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَلَيْهِ يُؤْذِنُ إِطْلَاقَهُ بِمُسَاوَاةِ الْفِعْلِ لِلتَّرْكِ، وَالْمَكْرُوهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَكْرُوهَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ السُّكُوتُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحَلَّ تَشْرِيعٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ بِحُكْمِ إِطْلَاقِ السُّكُوتِ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ وَلَا تَعْرِيفٌ أَوْهَمَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ، وَهُوَ الْإِذْنُ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمَكْرُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. لَا يُقَالُ: فَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ؛ إِذْ لَا يُفْهَمُ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ فِيهِ غَيْرُ مُطْلَقِ الْإِذْنِ أَوْ أَنْ لَا حَرَجَ، وَلَيْسَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَرْكِهِ وَمَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، وَالْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَلَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ مُقْتَضَى الْإِقْرَارِ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّهُ دَاخِلٌ، هَذَا خُلْفٌ لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُمَا دَاخِلَانِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَرَجِ مَعَ فِعْلِ الْوَاجِبِ لَازِمٌ لِلْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي الِاقْتِضَاءِ قَصْدًا مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ صَارَا لَا حَرَجَ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَأَنْ لَا حَرَجَ رَاجِعٌ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَلَا يَتَوَافَقَانِ، وَإِلَّا؛ فَكَيْفَ يَتَوَافَقَانِ وَالنَّهْيُ يُصَادِمُ عَدَمَ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ؟ فَإِنْ قِيلَ: مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ هُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ، وَأَنْتَ تُثْبِتُ هُنَا الْحَرَجَ بِهَذَا الْكَلَامِ. قِيلَ: كَلَّا، بَلِ الْمُرَادُ هُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَالِكَ فِيمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا فِيمَا قَبْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ الْمَكْرُوهِ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ بَحْتًا كَمَا هُوَ مُصَادِمٌ فِي الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَلَكِنَّ خِفَّةَ شَأْنِ الْمَكْرُوهِ وَقِلَّةَ مَفْسَدَتِهِ صَيَّرَتْهُ بَعْدَ مَا وَقَعَ فِي حُكْمِ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ اسْتِدْرَاكًا لَهُ مِنْ رِفْقِ الشَّارِعِ بِالْمُكَلَّفِ، وَمِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُكَفِّرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ كَالطَّهَارَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ، وَالْجُمُعَاتِ، وَرَمَضَانَ، وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَسَائِرِ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالصَّغِيرَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْمَكْرُوهِ؛ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ مُصَادَمَةِ النَّهْيِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ؛ فَنَظَرٌ إِلَى مَا قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَدْخُلَ الْمَكْرُوهُ تَحْتَ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ؛ كَقِيَافَةِ الْمُدْلِجِيِّ فِي أُسَامَةَ وَأَبِيهِ زَيْدٍ، وَأَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ مُتَبَسِّمًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى طَهَارَةِ دَمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ شَرِبَ دَمَ حِجَامَتِهِ.
الْقَوْلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَارَنَهُ الْفِعْلُ؛ فَذَلِكَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ فِي التَّأَسِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاقِعٌ عَلَى أَزْكَى مَا يُمْكِنُ فِي وَضْعِ التَّكَالِيفِ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُطَابِقْهُ الْفِعْلُ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ؛ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةٍ وَلَا مَفْضُولِيَّةٍ. وَمِثَالُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: أَأَكْذِبُ لِامْرَأَتِي؟ قَالَ: «لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ» قَالَ: أَفَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ قَالَ: «لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ» ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ مَا أَجَازَهُ، بَلْ لَمَّا وَعَدَ عَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَذَلِكَ حِينَ شَرِبَ عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ عَسَلًا؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ كَأَنَّهُ مِمَّا يُتَأَذَّى مِنْ رِيحِهِ؛ فَحَلِفَ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ، أَوْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيُرْجَعُ إِلَى الْأَوَّلِ؛ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التَّحْرِيم: 1] وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَعِدَ وَيَقُولَ، وَلَكِنَّهُ عَزَمَ بِيَمِينٍ عَلَّقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ تَحْرِيمٍ عَقَدَهُ؛ حَتَّى رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى تَحِلَّةِ الْأَيْمَانِ. وَأَيْضًا؛ فَلَمَّا قَالَ لِلرَّجُلِ الْوَاهِبِ لِابْنِه: أَشْهِدْ غَيْرِي كَانَ ظَاهِرًا فِي الْإِجَازَةِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ هُوَ مِنَ الشَّهَادَةِ؛ دَلَّ عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ مُقْتَضَى الْقَوْلِ. وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَسَّانَ وَغَيْرَهُ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ مُنِعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يُعَلَّمْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَرْجُوحِيَّتِهِ وَلِقَوْلِه: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وَقَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ»؛ فَهَذَا إِذْنٌ فِي الْهِجَاءِ، وَلَمْ يَذُمَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَدًا بِعَيْبٍ فِيهِ، خِلَافَ عَيْبِ الدِّينِ، وَلَا هَجَا أَحَدًا بِمَنْثُورٍ، كَمَا لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ الْمَنْظُومُ أَيْضًا وَمِنْ أَوْصَافِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَيَّابًا وَلَا فَحَّاشًا، وَأَذِنَ لِأَقْوَامٍ فِي أَنْ يَقُولُوا لِمَنَافِعَ كَانَتْ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ أَوْ نِضَالٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهُ التَّوْرِيَةُ؛ كَقَوْلِه: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ، وَفِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْغَزْوِ؛ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْقَوْلِ الَّذِي مَفْهُومُهُ الْإِذْنُ إِذَا تَرَكَهُ قَصْدًا مِمَّا لَا حَرَجَ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْسَنُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَالتَّوْسِعَةُ عَلَى وَفْقِ الْقَوْلِ مَبْذُولَةٌ، وَبَابُ التَّيْسِيرِ مَفْتُوحٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
الْإِقْرَارُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا وَافَقَ الْفِعْلَ؛ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي التَّأَسِّي لَا شَوْبَ فِيهِ، وَلَا انْحِطَاطَ عَنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّأَسِّي؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الصَّوَابِ، فَإِذَا وَافَقَهُ إِقْرَارُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ فَهُوَ كَمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ؛ فَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ زَائِدٌ مُثْبِتٌ. بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنِ اقْتَضَى الصِّحَّةَ فَالتَّرْكُ كَالْمُعَارِضِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ؛ فَقَدْ رَمَى فِيهِ شَوْبَ التَّوَقُّفِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْفِعْلِ. وَمِثَالُهُ إِعْرَاضُهُ عَنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، وَبُعْدُهُ عَنِ التَّلَهِّي بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْرِجْ فِي اسْتِعْمَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِحَضْرَتِهِ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَمَّا جَاءَتْهُ الْمَرْأَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ طَهَارَةِ الْحَيْضَةِ؛ قَالَ: «لَهَا خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرِي بِهَا» فَقَالَتْ: وَكَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ فَأَعَادَ عَلَيْهَا وَاسْتَحْيَى حَتَّى غَطَّى وَجْهَهُ فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ مَا أَرَادَ، فَفَهَّمَتْهَا بِمَا هُوَ أَصْرَحُ وَأَشْرَحُ؛ فَأَقَرَّ عَائِشَةَ عَلَى الشَّرْحِ الْأَبْلَغِ، وَسَكَتَ هُوَ عَنْهُ حَيَاءً؛ فَمِثْلُ هَذَا مُرَاعًى إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَيَانُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْجَائِزِ، أَمَّا إِذَا تَعَيَّنَ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْإِفْهَامُ كَيْفَ كَانَ؛ فَإِنَّهُ مَحَلُّ مَقْطَعِ الْحُقُوقِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، بَلْ فِيهِ مَا يَكُونُ كَذَلِكَ، نَحْوَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْمَطْلُوبَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الصِّرْفَةِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالْأَمْثِلَةِ. فَإِنْ قَارَنَهُ قَوْلٌ، فَالْأَمْرُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْظُرُ إِلَى الْفِعْلِ؛ فَيَقْضِي بِمُطْلَقِ الصِّحَّةِ فِيهِ مَعَ الْمُطَابَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ.
سُنَّةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سُنَّةٌ يُعْمَلُ عَلَيْهَا وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا: ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ، وَمَدْحُهُمْ بِالْعَدَالَةِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] وَقَوْلِه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَة: 143] فَفِي الْأُولَى إِثْبَاتُ الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِاسْتِقَامَتِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، وَجَرَيَانِ أَحْوَالِهِمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ دُونَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِثْبَاتُ الْعَدَالَةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُولَى. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا عَامٌّ فِي الْأُمَّةِ؛ فَلَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّا نَقُولُ: أَوَّلًا لَيْسَ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِقِيَاسٍ وَبِدَلِيلٍ آخَرَ وَثَانِيًا عَلَى تَسْلِيمِ التَّعْمِيمِ أَنَّهُمْ أَوَّلُ دَاخِلٍ فِي شُمُولِ الْخِطَابِ؛ فَإِنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلْوَحْيِ. وَثَالِثًا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ إِذِ الْأَوْصَافُ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ إِلَّا هُمْ؛ فَمُطَابَقَةُ الْوَصْفِ لِلِاتِّصَافِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْمَدْحِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَدَلُوا الصَّحَابَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، فَأَخَذُوا عَنْهُمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَلَا مُحَاشَاةٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ؛ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ وَثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ، وَذَلِكَ مُصَدِّقٌ لِكَوْنِهِمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَدْحِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّهُمْ وَسَطٌ أَيْ عُدُولٌ بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُهُمْ مُعْتَبَرٌ، وَعَمَلُهُمْ مُقْتَدًى بِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِمَدْحِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إِلَى قَوْلِه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الْآيَةَ [الْحَشْر: 8- 9] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَأَنَّ سُنَّتَهُمْ فِي طَلَبِ الِاتِّبَاعِ كَسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِه: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». وَقَوْلِه: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَصْحَابِي مِثْلَ الْمِلْحِ، لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إِلَّا بِهِ» وَعَنْهُ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَارَ لِي مِنْهُمْ أَرْبَعَةً: أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا؛ فَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أَصْحَابِي، وَفِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ» وَيُرْوَى فِي بَعْضِ الْأَخْبَار: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَدَّمُوا الصَّحَابَةَ عِنْدَ تَرْجِيحِ الْأَقَاوِيلِ؛ فَقَدْ جَعَلَ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَبَعْضُهُمْ عَدَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ دَلِيلًا، وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَعَلِّقٌ مِنَ السُّنَّةِ وَهَذِهِ الْآرَاءُ وَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهَا؛ فَفِيهَا تَقْوِيَةٌ تُضَافُ إِلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَهَابُونَ مُخَالَفَةَ الصَّحَابَةِ، وَيَتَكَثَّرُونَ بِمُوَافَقَتِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا تَجِدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي عُلُومِ الْخِلَافِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ، فَتَجِدُهُمْ إِذَا عَيَّنُوا مَذَاهِبَهُمْ قَوَّوْهَا بِذِكْرِ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي مُخَالِفِيهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ، وَقُوَّةِ مَآخِذِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِبَرِ شَأْنِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ مِمَّا يَجِبُ مُتَابَعَتُهُمْ وَتَقْلِيدُهُمْ فَضْلًا عَنِ النَّظَرِ مَعَهُمْ فِيمَا نَظَرُوا فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ، وَيُمْنَعُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الصَّحَابِيّ: كَيْفَ أَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِقَوْلِ مَنْ لَوْ عَاصَرْتُهُ لَحَجَجْتُهُ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ لَهُمْ قَدْرَهُمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ وَصَفَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَوَصَفَ مُتَابَعَتَهُمْ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِهِ. فَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْبَدْرِيُّونَ؛ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَمْ يُدَّخَرْ لَكُمْ شَيْءٌ خُبِّئَ عَنِ الْقَوْمِ لِفَضْلٍ عِنْدَكُمْ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ قَبْلَكُمْ؛ فَلَعَمْرِي لَئِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا؛ فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ؛ فَاعْرَفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ؛ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ وَهُوَ نَهْيٌ لِلْعُلَمَاءِ لَا لِلْعَوَامِّ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِه: وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّه: لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيٍ خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدَى بِهَا مُهْتَدٍ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مَالِكٌ يُعْجِبُهُ كَلَامَهُ جِدًّا. وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: اتَّبِعُوا آثَارَنَا؛ فَإِنْ أَصَبْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَيِّنًا، وَإِنْ أَخْطَأْتُمْ فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ؛ فَقَالَ: اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ وَعَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ وَيَقُولُ: سَبِّحُوا عَشْرًا وَهَلِّلُوا عَشْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: إِنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَضَلُّ! بَلْ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ يَعْنِي: أَضَلُّ. وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَكْثُرُ إِيرَادُهَا، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَهُوَ: الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ إِيجَابِ مَحَبَّتِهِمْ وَذَمِّ مَنْ أَبْغَضَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَحَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا ذَاكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمْ رَأَوْهُ أَوْ جَاوَرُوهُ أَوْ حَاوَرُوهُ فَقَطْ؛ إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ لِشِدَّةِ مُتَابَعَتِهِمْ لَهُ، وَأَخْذِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَلِ عَلَى سُنَّتِهِ مَعَ حِمَايَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ حَقِيقٌ أَنْ يُتَّخَذَ قُدْوَةً، وَتُجْعَلَ سِيرَتُهُ قِبْلَةً. وَلَمَّا بَالَغَ مَالِكٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ أَوْ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِمْ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ كَانَ الْمُعَاصِرُونَ لِمَالِكٍ يَتَّبِعُونَ آثَارَهُ وَيَقْتَدُونَ بِأَفْعَالِهِ، بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ لِمَنْ أَثْنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُمْ قُدْوَةً أَوْ مَنِ اتَّبَعَهُمْ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْمُجَادَلَة: 22].
|